افتتح لقاء فضيلة الامام الاكبر شيخ الازهر لقاءه مع القوى السياسية والفكرية بالترحيب بهم في رِحابِ الأزهرِ الشريفِ، ودائمًا التقاءَ الإخوةِ له فضلُه وبركتُه، غير أن لقاء اليوم له فضلٌ خاص ؛ لأنَّه يأتي على حِين فترةٍ من التلاقي بين الإخوة، الذين هم سدى النسيج الوطني ولحمته، ولأنَّه يتمُّ في هذه الرحاب التي تحبُّكم وتحبُّونَها، والتي تسعدُ دَوْمًا بكلِّ أطياف الجماعة الوطنيَّة المصريَّة دون تفريقٍ أو تمييز .
لقد بَقِيَ الأزهرَ ـ بحمدِ الله ـ على مَدارِ التاريخِ، وأطوارِ الحياة المصريَّةِ المتعاقِبة، بيتَ الوطنيَّةِ المصريَّةِ، نلتقي فيه جميعًا كلَّما حَزَبَنا أمرٌ أو دَعانا داعٍ، لنتَدارَسُ، ما يُواجِهُنا من تحدِّيات، ونُعلِنُ للكافَّةِ في الداخلِ والخارجِ، ما نلتقي عليه من رأيٍ، وما نتَوافَقُ عليه من قَرار.
أيها الحضور الكرام..
قبلَ أربعةَ عشر قرنًا أعلن رسولُ هذه الأمَّة - صلى الله عليه وسلم - في حجَّة الوداع مِيثاق الحقوق المدنيَّة والدينيَّة لكافَّة الناس.. وذلك عندما قال:
«أيُّها الناس، إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكُم إلى أنْ تلقَوْا ربَّكم، كحُرمةِ يومِكم هذا، في شَهرِكم هذا، في بلَدِكم هذا...».
حدَث هذا قبلَ أنْ تعرفَ الإنسانيةُ مواثيقَ الحقوقِ والمعاهداتِ التي تُؤكِّد على احترام هذه الحقوق.
بل إنَّ هذا الإعلان الذي افتتَحت به الحضارةُ الإسلاميَّة تاريخَها قد ارتفع بهذه الحُرمات «حرمات الدماء والأموال والأعراض»، والتي تُمثِّلُ الحفاظَ على مقاصد كلِّ الشرائع والقوانين - قد ارتفع بها من مَرتَبة «الحقوق» إلى مَرتبة «الفرائض والتكاليف والواجبات»، فلا يجوزُ لإنسانٍ أنْ يُفرِّطَ فيها، ولا أنْ يدع أحدًا يُهدرها تحت أيِّ ظرفٍ من الظروفِ.
وأحسبُ أنَّكم تُوافِقونني على الملتَقيات الوطنيَّةَ التي تمَّت في رِحاب الأزهرِ الشريفِ، منذُ قِيامِ الثورةِ المصريةِ، في 25 يناير 2011، وصدَرَتْ عنها وثائقُ خمسٌ، كانت كلُّها محاولاتٍ ناجحةً ـ بحمدِ اللهِ ـ لبناءِ موقفٍ وطنيٍّ تَوافُقِيٍّ، نجتازُ به عقَبةً، أو نعالجُ به مشكلةً واجهَتْ مصيرَ هذه الثورةِ، وأكثَرُ مَن تسعدُ به هذه القاعةُ اليومَ شارَكوا في هذه الملتَقيات أو بعضٍ منها لكن هناك عاملاَ آخَر دَعَا إلى عَقْدِ لقاءِ اليوم لا بُدَّ أنْ أُصارِحَكم به، فقد زارَنا هنا خِلالَ الأسبوعِ الأخيرِ، مجموعةً من الشبابِ الوطنيِّ المصريِّ، الذين فجَّروا ثورةَ الخامس والعشرين وقاموا بها مع كلِّ فئاتِ الشعبِ، مُشفِقين ممَّا تمرُّ به بلادُنا العزيزةُ، وتتعرَّضُ له من مَآزِقِ، فلم يكتَفُوا بالإشفاقِ، واجتمعوا هنا أكثرَ من مرَّةٍ مع طائفةٍ من العُلَماءِ، وانتَهوا إلى جملةِ أُصولٍ أو مَبادئ، رأوا فيها أنَّها يُمكن أنْ تُعالج أخطرَ جَوانِبِ الموقفِ الراهنِ وتُعيننا على اجتِيازِه، وهي بينَ أيديكم يَطرَحونَها علينا، ويَدعوننا إلى النظَر فيها ثم تَبَنِّيها، وإعلانها على النَّاسِ في صِدْقٍ وأمانةٍ وشُعورٍ وطنيٍّ بالمسئوليَّةِ لإيقافِ بعضِ التَّصرُّفاتِ التي اندَفَعتْ إليها بعضُ الجماهيرِ، ولوقفِ الجمُوحِ الذي طالَ الدِّماءَ المصريَّةَ، وهدَّد حقَّ الحياةِ الذي هو أصلُ كلِّ الحقُوقِ الإنسانيَّةِ، وحقَّ الأمن والأمانِ الذي هو المطلَبُ الأساسيُّ لكلِّ مُواطنٍ عاديٍّ هدد كل فرد أنْ يَأمَنَ على بيتِه وعلى أولادِه ذاهبينَ إلىالمدرسةِ أو عائدينَ منها، وعلى أهلِه وجيرانِه، ثم على مُقدَّرات وطَنِه التي تتعرَّضُ للخطرِ الشَّديد .
وإنِّي لأَعتَرِفُ بأنَّنا نُواجِهُ موقفًا كذلك الذي دفَع حافظ إبراهيم ـ رحمه الله ـ أن يقول على لسان مصر التي تتحدث عن نفسها :
نحنُ نَجتازُ مَوْقفًا تَعْثُرُ الآرَاءُ ... فيهِ، وَعَثْرَةُ الرأيِ تٌرْدِي
نظَرَ اللهُ لي فأَرْشَدَ أبنائِي ... فشَدُّوا للعُلا أيَّ شدِّ
ومصر – كما نعلم - هي كنانةُِ اللهِ في أرضِه، ووصيَّةُِ أنبيائِه ورسُلِه وقد جعل الله فيها، شبابًا مثلَ هذا الشبابِ الطاهرِ، الذينَ قاموا بهذِه المبادَرةِ ودعونا إلى هذا اللقاءِ، وأشعُرُ معهم أنَّنا ينبغي أنْ ننظُرَ في هذا البَيانِ، أو تلك الوثيقةِ التي انتَهَوْا إليها، بمُشاركةِ كَوْكبةٍ من العُلَماءِ الأزهريِّينَ، وأكثَرُها على كلِّ حالٍ ثوابتُ لا خِلافَ عليها ـ فيما أعتَقِدُ.
ورأي إن سمحتم – أيها الإخوة، هو التأكيد على النقاط التالية :
أولاً: الالتزام بقَداسة وصِيانة حُرمات الدماء والأموال والأعراض فرديَّةً أو اجتماعيَّةً كانت هذه الدماء .
فواجبٌ دِيني ووطَني إنساني صيانةُ كلِّ قطرة دمٍ لكلِّ مصري، ولكلِّ مَن يعيش على أرض هذا الوطَن؛ لأنَّ صيانةَ هذه الحرُمات هي قاعدة الأمن والأمان، الذي يُمثِّلُ منطلق البناء والتنمية التي تُحقِّقُ أهداف الثورة، وتُعيد إلى مصرَ مكانتَها اللائقة إقليميًّا وعالميًّا.
ثانيًا: إذا كان التنوُّع والتعدُّد والاختلاف في الفكر والسياسة، هو سُنَّة الله التي لا تبديلَ لها ولا تحويل، يُمثِّلُ الضَّمانةَ ضدَّ الانفراد بالقَرار الذي يُؤسِّسُ للاستبدادِ، فإنَّ واجب تيَّارات الفكر والسياسة في بلادنا الالتزام بتوظيف التعدُّديةَّ والاختلاف، وسِلميَّة التنافُس على السُّلطة وسِلميَّة التَّداوُل لهذه السُّلطة، مع إعلان التحريم والتجريم لكلِّ ألوان العُنف والإكراه لتَحقِيق الأفكار والمطالب والسِّياسات.
ثالثاً: دعوةِ كلِّ المنابر الدِّينيَّة والفكريَّة والثقافيَّة والإعلاميَّة إلى نبْذ كلِّ ما يتَّصل بلُغة العنف في حلِّ المشكلات، مع قِيام كلِّ هذه المنابر بحملةٍ مُنظَّمة لإعادة الحياة الفكريَّة والسياسيَّة إلى النَّهج السلمي الذي امتازَتْ به ثورة هذا الشعب العظيم.
رابعًا: جعل الحوار الوطني الذي تُشارك فيه كلُّ مُكوِّنات المجتمع المصري دون أيِّ إقصاءٍ هو الوسيلة الوحيدة لحلِّ أيَّة إشكالات أو خِلافات.. فالحوار هو السبيلُ إلى التعارُفِ والتعايُشِ والتعاوُنِ على إنهاض هذا الوطنِ؛ ليُحقِّق طموحات سائر المواطنين.
أيها الإخوة الحضور..
إنَّ العملَ السياسيَّ لا علاقةَ له بالعُنفِ والتخريبِ، سلامتَنا جميعًا ومصيرَ وطنِنا مُعلَّقٌ باحترامِ القانونِ وسيادتِه، وتلك مسئوليَّةُ الجميعِ حُكَّامًا ومحكومين .
ومن ثَمَّ فلا ينبغي أنْ نتردَّدَ في نَبْذِ العُنفِ وإدانتِه الصَّريحةِ القاطعةِ من أيِّ مصدرٍ كان، وتجريمِه وطنيًّا وتحريمِه دِينيًّا، ولا يجوزُ مُطلَقًا التحريضُ على العُنفِ، أو السُّكوتُ عليه، أو تبريرُه أو التَّرويجُ له، أو الدِّفاعُ عنه، أو استغلالُه بأيِّ صورةٍ .
وأنَّه ينبغي أنْ نُربِّي كوادرَنا على ثقافةِ العمَلِ الدِّيمقراطيِّ، والالتزامِ بالحوارِ الجادِّ، وبخاصَّةٍ في ظُرُوفِ التَّأزُّمِ، مع مُراعاةِ مَبدَأ التَّعدُّديَّةِ وأدبِ الخلافِ، والتقيد بآداب الحوار، والبعد عن الألفاظ الجارحة التي تزيد المواقف اشتعالاً .
ودعوني ـ أيُّها الإخوةُ ـ أتَرَحَّمُ على أبي الطيِّبِ القائلِ :
جِراحاتُ السِّنَانِ لها التِئامٌ ... ولا يَلتَامُ ما جَرَحَ اللِّسَانُ
وأمرانِ آخَرانِ أكَّدَتْهما هذه الوثيقةُ : ـ الأولُ : حمايةُ النَّسيجِ الوطنيِّ من أيِّ تهديدٍ، ومن أيِّ اختِراقٍ أجنبيٍّ غيرِ قانونيٍّ، وإدانةُ المجموعاتِ المسلَّحةِ الخارجةِ عن القانونِ أيًّا كانت . والآخر والأخير : هو حمايةُ الدولةِ المصريةِ ؛ لأنَّها ـ أيُّها السَّادةُ ـ رأسُ مالِنا الوطنيِّ جميعًا، لا ينبغي أنْ نسمَحَ بتَبدِيدِه أو تَفكِيكِه أو العَبَثِ به بأيَّةِ صُورةٍ من الصُّوَرِ، فساعَتَها ـ لا قَدَّرَ اللهُ ـ لن يَبقَى في الساحةِ إلا الشَّيْطانُ .
(وفَّق اللهُ مصرَ .. شبابَها، وقادتَها، وعلماءَها، وثورتَها، إلى اجتيازِ الخطرِ وإعلانِ الحقِّ، والالتزامِ به، وكَبْتِ العدوِّ، وإرضاءِ الصديقِ .
وفقكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق