الثلاثاء، مارس 05، 2013

أخبار التعليم تنشر حصاد زيارة كيرى للقاهرة


لم تكن الزيارة التي اختتمها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، لمصر أمس الأحد مجرد زيارة عادية، بل كانت ''استثنائية بامتياز''، سواءً فيما يتعلق بالتأكيد الأمريكي المتجدد على أهمية الدور المصري في ظل بيئة إقليمية مضطربة، وهو ما يتضح من طبيعة الدول التي انطلق كيري لزيارتها خلال جولة أوروبية ـ شرق أوسطية، أو فيما يتعلق بتوقيتها من حيث الأزمة السياسية الحادة بين القوى المختلفة واقتراب إجراء الانتخابات البرلمانية الشهر المقبل.
وربما تعد هذه من الزيارات القليلة لوزير خارجية أمريكي يتناول فيها هذا الكم من الملفات الداخلية والإقليمية مع أطراف رسمية وغير رسمية بالدولة المصرية؛ فثمة معضلة حقيقية تواجهها واشنطن فيما يتعلق بمجمل الأوضاع المصرية، وهي معضلة لا تعود فقط إلى أن مصر لا تزال في طور محاولة إنهاء المرحلة الانتقالية في ظل خلافات سياسية محتدمة، وإنما مردها كذلك أن واشنطن لا تمتلك بوصلة واضحة لانتهاج استراتيجية متكاملة الأركان تجاه مصر ومنطقة الشرق الأوسط منذ اشتعال ثورات الربيع العربي التي أربكت كافة حسابات الدول العربية والولايات المتحدة أيضا.
لقد حاول كيري خلال زيارته أن يؤكد على أن الولايات المتحدة برئاسة ''باراك أوباما'' تنتهج سياسة متوازنة تجاه مصر ''الداخل''، تعتمد على مقولة أوباما التي ذكرها في خطاب حالة الاتحاد يوم 14 فبراير الماضي حينما أكد أن بلاده ''تقف مع المواطنين الذين يطالبون بحقوقهم، وأننا سندعم انتقالا مستمرا للديمقراطية''، قائلاً: ''إننا لا نستطيع الافتراض بأننا سنقوم بإملاء مسار التغيير في دولة مثل مصر''.
-->

  ولذا حث كيري المعارضة المصرية على عدم مقاطعة الانتخابات البرلمانية، في تأكيد جديد على ما أعلنته الإدارة الأمريكية الأسبوع الماضي، وبالمقابل حث الرئيس محمد مرسي على المزيد من العمل الشاق والتسويات لإعادة الاستقرار في البلاد وإنعاش الاقتصاد المصري، كما حرص على لقاء وزير الدفاع، عبد الفتاح السيسي، للتأكيد على الحرص الأمريكي على دعم مصر عسكريًا من جانب، وعلى دور الجيش المصري في حماية الأمن والاستقرار خلال المرحلة الراهنة من جانب آخر.
وتبدو المفارقة الكبيرة خلال زيارة كيري في رفض العديد من رموز المعارضة وجبهة الإنقاذ الوطني مقابلته، مرة تحت ذريعة أن توقيت الزيارة غير مناسب، ومرة أخرى لأن واشنطن تتخذ موقفا مسبقا يدعم جماعة الإخوان المسلمين، ومرة ثالثة بالقول إن واشنطن تسعى للتدخل في شئون مصر الداخلية لأنها طالبت بشكل صريح هذه القوى بعدم مقاطعة الانتخابات البرلمانية.
هذه المفارقة مردها أن معظم هذه القوى ذات ميول ليبرالية ومدنية؛ مما يعني أنها الأقرب أيديولوجيا للأفكار الأمريكية، وكأنه قد كتب على أي معارضة مصرية، الإخوان سابقا، والمجموعات المدنية حاليا ، أن تصف أي تصريح أمريكي بمنتهى اليسر بأنه تدخل في الشئون الداخلية، وهي ذاتها مقولة يرددها النظام الحاكم ذاته إذا كانت التصريحات لا تأتي متماشية مع سياساته.
من هذا المنطق مثلت زيارة كيري عاملا إضافيا للانقسام الراهن في المشهد السياسي المصري، مع أنه يفترض أن الثقافة السياسية لدى قوى الحكم والمعارضة يجب أن تدرك أنه من غير الوارد أن تخضع لأي ضغط أمريكي إن وجد، وإدراك أن واشنطن تبدو مرتبكة بالفعل في التعاطي مع الداخل المصري منذ الثورة، وأن نفوذها قد انخفض إلى حد كبير في التأثير على السياسات الداخلية منذ سقوط الرئيس السابق حسني مبارك.
ويثير ذلك الأمر حقيقةَ وجود وجهتي نظر مصريتين بشأن الدور الأمريكي، أولهما يعتقد أن واشنطن قادرة على دعم فصيل محدد هو جماعة الإخوان المسلمين، وهو خطأ يرتكبه أنصار هذا الرأي لأن دعم واشنطن لنظام مبارك لم يمنع سقوطه، بمعنى أن عوامل الداخل هي ما تؤثر على مجمل الأوضاع المصرية أكثر كثيرا من تأثيرات الخارج، وثانيهما أن واشنطن لا تدعم أي فريق في الوقت الرهن، بل إنها تسعى إلى تعزيز الاستقرار الداخلي لتحقيق مصالحها أولا، وأنها تتعامل مع أي نظام حاكم وفق هذا المنطق، مع الدفع إلى تعزيز عملية التحول الديمقراطي قدما.
ويجوز القول إن الرأي الثاني هو الأقرب لتفسير سياسة واشنطن تجاه مصر، ليس فقط لأن البراجماتية المتبادلة من قبل إدارة أوباما ومن جماعة الإخوان المسلمين أوجدت توافقا كبيرا وحالة من الاستمرارية على ذات الأسس السابقة للعلاقات المصرية الأمريكية في الملفات الأساسية، والتي من أبرزها: التزام مصر منذ الثورة بمعاهدة السلام مع إسرائيل وانتهاج اقتصاد السوق دون إغفال البعد الاجتماعي واستمرار التعاون الأمني والعسكري المشترك والتوافق النسبي بشأن الملفات الكبرى في المنطقة مثل الثورة السورية أو محاولة إحياء عملية التسوية السلمية، ولكن أيضًا لأن واشنطن وجدت نفسها حاليًا أمام معضلة حقيقية في الداخل المصري لم تصادفها منذ عقود.
وتتمثل هذه المعضلة الأمريكية في أنها تسوق لعملية انتقال ديمقراطي سلمي للسلطة في مصر، وهو ما يعني أن استعداء الرئيس مرسي يعد انقلابا أمريكيا على هذا المفهوم، وبالمقابل يلاحظ المسئولون الأمريكيون الانقسام الواضح داخل القوى المدنية، ويرون أنها لا تمتلك التأثير الجماهيري الكافي، بل ويؤكد البعض على أن اعتدال جماعة الإخوان المسلمين قلل كثيرا الفروق بينها وبين هذه القوى، في حين يبدو التيار السلفي بالنسبة للولايات المتحدة هو الأكثر ''تشددا'' مما يعني أن واشنطن لا تستطيع سوى الركون إلى أسس اللعبة الديمقراطية لأن دعمها لأي فصيل لا يضمن وصوله للسلطة أو استمراره فيها، ولذا تفضل التعاطي مع الداخل المصري من منظور المصالح أولا وليس الأيديولوجيا.
أما داخل الولايات المتحدة فيمكن القول بوجود وجهتي نظر أيضا بشأن كيفية التعامل مع الأوضاع المصرية الراهنة، فهناك جناح متشدد يظهر في بعض مراكز الفكر الأمريكية ودوائر قليلة داخل مركز صنع القرار، وخاصة بين أروقة الكونجرس، يرى أنه لا يجوز التعامل مع مصر مجددا بما يطلقون عليه ''سياسة تدليل النظام الحاكم'' كما كان سائدا في العهد السابق، وإنما وفق التزامات وخطوات ملموسة تربط بين عدم تخفيض المساعدات العسكرية والاقتصادية وبين التقدم في عملية الانتقال الديمقراطي بشتى أبعادها.
وبالمقابل هناك اتجاه آخر هو الأقرب للواقعية يرى أن حزب الحرية والعدالة والرئيس مرسي وصلا للسلطة وفق انتخابات ديمقراطية، وأن مصر لا تزال في طور بداية مرحلة التحول، وأنها تواجه بلا شك صعوبات سياسية واقتصادية ومجتمعية مع زوال النظام السابق، وهو ما يعني التعامل بواقعية تستند إلى إعطاء فرصة للنظام الجديد ودعم عملية التحول قدر الممكن بأدوات وسياسات ''ناعمة'' لا تفرض -ولا تستطيع أن تفرض- على المصريين توجهات معينة.
ويعتبر وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، من أنصار هذا الرأي، فتتبع مواقفه منذ الثورة يؤكد على تلك الحقيقة؛ فقد صرح كيري في وقت مبكر جدًا، وهو رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ، في 20 مارس 2011، بأن ''واشنطن لا تخشى تولي جماعة الإخوان المسلمين مقاليد الحكم في مصر عبر عملية ديمقراطية''.
كما كان كيري ضمن وفد أمريكي التقى حزب الحرية والعدالة في ديسمبر 2012، وصرح حينذاك بأنه لم يفاجأ مطلقا بتقدم الحزب في انتخابات مجلس الشعب، وبعد توليه وزارة الخارجية أكد في 24 يناير الماضي لدى استجواب أمام الكونجرس بأن الرئيس محمد مرسي لم يقصد إهانة اليهود في التصريحات التي تناقلتها وسائل إعلام مختلفة''.
من جانب آخر يوضح تتبع المسار العام العلاقات المصرية ـ الأمريكية منذ ثوة 25 يناير أن الأطر الحاكمة لتلك العلاقات تتمتع بالثبات والاستقرار النسبي. ويعود ذلك إلى طبيعة متكافئة فرضتها الظروف المتغيرة بمصر والإقليم؛ فالولايات المتحدة لا تزال هي القطب الأبرز عالميًا، وهي أكبر مستثمر بمصر وأكبر شريك تجاري لها، ويمكنها دعم الاقتصاد المصري وتسهيل عملية حصول مصر على قرض صندوق النقد الدولي.
وبالمقابل تبقى مصر هي رمانة الميزان بالمنطقة وخاصة في ظل الأزمة الإيرانية والثورة السورية والقضية الفلسطينية، ومن ثم فإن أي فوضى قد تعم مصر خلال هذه الفترة أو أي تغيير راديكالي في سياستها الخارجية قد يؤثر على استقرار الإقليم من منظور إجمالي.
تدرك الإدارة الأمريكية هذه الحقيقة بشكل لا يقبل التأويل؛ ومن ثم فهي تواجه بمعضلة الاستقرار في مصر؛ ما يحفظ الكثير من استقرار المنطقة التي تشهد حالة من السيولة يصعب معها التنبؤ بما هو قادم.
إن هذه المصالح المتبادلة هي ما حفظت للعلاقات المصرية ـ الأمريكية هذا القدر من الاستمرارية منذ ثورة 25 يناير. يؤشر لذلك معالجة الدولتين سريعًا لأكبر أزمتين نشبتا بينهما، وهما: أزمة تمويل منظمات المجتمع المدني في فبراير عام 2012، وأزمة الاحتجاجات أمام السفارة الأمريكية في سبتمبر الماضي على خلفية الفيلم المسيء للنبي محمد صلى الله علية وسلم، فلم تؤد هاتان الأزمتان إلى تغير سلبي في نمط الرؤى المشتركة لقضايا المنطقة أو لهيكل العلاقات العسكرية والاقتصادية بينهما.
ويلاحظ أنه رغم وجود أصوات داخل الكونجرس تطالب منذ سنوات بإعادة النظر في قضية المساعدات المقدمة لمصر، فإن هذه المخصصات لم تتأثر، حيث تلتزم الولايات المتحدة بتقديم 3ر1 مليار دولار سنويًا في شكل مساعدات عسكرية، و250 مليون دولار مساعدات اقتصادية، بل إن أوباما قد أحال ميزانية 2013/2014 إلى الكونجرس منذ أيام دون تغيير في هذه المخصصات على الرغم من قيام الإدارة الأمريكية بمراجعة كافة أوجه المساعدات التي تقدمها لدول العالم في ظل خفض للإنفاق الحكومي هذا العام.
وبالمثل لم تشهد معدلات التجارة تحولاً سلبيًا منذ ثورة 25 يناير، إذ سار إجمالي حجم قيمة الصادرات والواردات في عامي 2011 و 2012 على ذات المستوى تقريبًا، مع فروقات بسيطة، مقارنة بعامي 2009 و 2010. فوفقًا لإحصائيات أمريكية شهد عام 2012 انخفاضًا في عجز الميزان التجاري الذي يميل دائمًا لصالح الولايات المتحدة، إذ بلغ معدل الصادرات المصرية إلى الولايات المتحدة خلال هذا العام (هو الأعلى منذ عام 2009) ما قيمته 699ر2 مليار دولار، واستوردت ما قيمته 485ر5 مليار، ليصل العجز إلى 488ر2 مليار دولار.
بينما صدرت مصر في عام 2011 ما قيمته 058ر2 مليار، واستوردت ما قيمته 222ر6 مليار، وهو ما لا يختلف عن عام 2010 على سبيل المثال، حيث صدرت مصر للولايات المتحدة ما قيمته 238ر2 مليار، واستوردت ما قيمته 535ر6 مليار؛ وهو ما يعني أن المعدل العام للتجارة المتبادلة بين الدولتين دارت بشكل طبيعي منذ ثوة 25 يناير 2011.
وخلاصة ذلك أن ثمة ثوابت أساسية تحكم طبيعة العلاقات بين مصر والولايات المتحدة؛ ولذا لم يكن غريبا أن يقدم كيري خلال زيارته لمصر، بغض الطرف عن طبيعة النظام الحاكم، ما يفيد بدعم واشنطن للاقتصاد المصري والحث على إسراع عملية الانتقال الديمقراطي من خلال تجديد عوامل التوافق بين القوى الوطنية واستمرار العلاقات القائمة على الاحترام والصداقة والندية.
لكن واشنطن ليس بمقدورها أن تتكفل بحل المشكلات، بقدر ما أن التوافق السياسي الحقيقي، والذي هو رهن كافة القوى الوطنية، هو ما يمثل أول مداخل استعادة دور الدولة ونبذ العنف من مختلف الأطراف واستعادة عافية الاقتصاد المصري من جديد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة