منذ أن دخلت الجامعة وأنا أسمع الحوار حول قضية تعريب
العلوم، وعلى رأسها علوم الطب والهندسة والإلكترونيات. ولا أزال أذكر أن
المثل كان يُضرب، دائما، بالدولة السورية التى قامت بتعريب العلوم الطبية،
منذ سنوات عديدة.
وقد لاحظت، ولا أزال، أن الحماسة لعملية التعريب هى
حماسة متبادلة بين الدين والسياسة؛ فالأحزاب القومية العربية لا تزال تؤمن
بأن اللغة العربية هى عامل مهم من عوامل توحيد العرب
فى مشاعرهم القومية. وهو الأمر الذى لا تزال تؤمن به الأحزاب الدينية فى
العالم العربى. وكنت أسمع من أساتذة كبار أن هذه دعوة إيديولوجية، وأن
الإيديولوجيا إذا دخلت العلم أفسدته، فالعلم لا يزدهر ولا يتطور إلا بعيدا
عن الإيديولوجيا، والفشل العنيف الذى واجه العالم السوفيتى لسينكو، حين دعا
إلى إنشاء علم شيوعى مضاد للعلم البرجوازى أو الرأسمالى، كان كارثة تعلم
منها الاتحاد السوفيتى أنه لا تقدم فى العلم إلا بترك الحرية كاملة للعلماء
ليعملوا ويجتهدوا ويبدعوا، بعيدا عن قيود السياسة والقومية والدين الذى
يحيله البعض إلى تأويلات مناقضة للعلم والعقل والحس السليم والدين نفسه.
ولذلك لم يتردد سعد زغلول، الأزهرى، فى أن يصف الجامعة المصرية حين
افتتاحها بأنها جامعة دينها العلم، قاصدا بذلك إبعاد الجامعة عن فتاوى
وتأويلات رجال الدين الذين يحجرون على الحرية التى يتطلبها كل علم لينمو
ويزداد نماءً وتطورا. أما عن التجربة السورية فى تعريب علوم الطب، فقد
انتهت بالفشل. وقد شكا لى جراح سورى يعيش فى فرنسا أنه اضطر أن يدرس كل شىء
من جديد، كى يكون فى مستوى خريج طالب الطب الفرنسى.
والحق أننى لست ضد ترجمة العلم إلى لغة أى دولة،
شريطة ألا تكون علاقات إنتاج المعرفة فى هذه الدولة أقل تقدما من أدوات
إنتاج المعرفة فى أكثر الدول تقدما. وهذا ما حدث فى اليابان والصين وغيرهما
من الأقطار القادرة على منافسة الدول الأوروبية والولايات المتحدة
المتقدمة تقليديا، ولذلك أرى أنه من غير المفيد أن ندعو لتعريب العلوم،
ونتحمس لهذه الدعوة، ونضعها فى الدستور إلا بعد أن تعمل أدوات إنتاج العلم
فى بلادنا بما يعادل قوة مثيلاتها فى الدول المتقدمة. أما ونحن على ما عليه
من تخلف علمى ومعرفى عام، فإن نتيجة تعريب العلوم سوف تنتهى إلى كارثة.
وسنظل فى حاجة إلى تطوير علوم اللغة العربية وآدابها جنبا إلى جنب تطوير
اللغات الأجنبية ومعارفها. وما أشد فقرنا وتخلفنا فى هذا المجال!. لقد
أسهمت شخصيا - والحمد لله فى إنشاء المركز القومى للترجمة، ضمن وزارة
الثقافة المصرية. وقد أقمت المركز على أسس علمية راسخة،
ولا يزال يعمل ضمن استراتيجية، تتضمن الإسهام فى
تطوير خبرة أجيال جديدة من المترجمين. وتمت ترجمة كتب للمعارف العامة
والخاصة عن خمس وثلاثين لغة، ومتوسط إنتاج المركز نحو خمسمائة كتاب فى
السنة ويمكن زيادتها. ولكن وجود مركز كهذا وبهذه الأهمية - لا يكفى فى
ترجمة كل ما نحتاج إليه من معارف. ومن مفاخره أنه قدم ترجمة نحو ثلاثين
دستورا من دساتير العالم، كى تعين الذين أخذوا على عاتقهم صياغة الدستور،
وأتاح للقارئ المصرى والعربى فرصة أن يقارن بين دستور بلده ودساتير غيرها
من أقطار العالم التى تضم تركيا وإيران والهند وإنجلترا وفرنسا والولايات
المتحدة.
لكن هل يكفى ذلك، بالطبع لا. إن إسرائيل وحدها تترجم
أكثر مما تترجمه الدول العربية مجتمعة. وإذا كانت أمريكا تنفق 2.7% من
دخلها القومى على الأبحاث العلمية فإن إسرائيل تنفق ما يقارب من خمسة
بلايين دولار، أى ما يعادل 4.2% من الدخل القومى على الأبحاث العلمية، كما
أنها فيما أكد الدكتور مصطفى السيد العالم المصرى الشهير - تنفق على تعليم
الطالب الواحد أربعين ضعف ما تنفقه مصر. ولست أريد ذكر المزيد من الأرقام
الموجعة والدالة على تخلفنا الناتج ضمن أسباب عديدة - عن عدم إدراك أن تقدم
البحث العلمى يسهم فى زيادة الدخل القومى، فضلا عن عدم إدراك أن البحث
العلمى فى العالم المتقدم يحقق كل يوم طفرة جديدة وإضافة حديثة. ولا يمكن
لمن يركب السلحفاة أن يفكر فى السير أو الطيران بسرعة من تجاوز سرعة الصوت.
ولذلك فعلينا قبل التفكير فى تعريب العلوم والمعارف تغيير طرق التفكير فى
الوسائل التى نتبعها فى النظر إلى العالم وإلى أنفسنا، ونعى فعليا مدى
تخلفنا، ومدى الصدأ الذى تراكمت طبقاته على أغلب عقول القائمين على
المؤسسات التى تنهض بالبحث. لماذا لا يوجد عندنا عشرات أو حتى مئات من
أمثال محمد غنيم الذى قام بمعجزة إنشاء مركز الكلى فى المنصورة، وليس له
نظير فى بلاد كثيرة حولنا، أو شريف مختار الذى أنشأ مركز طب الحالات الحرجة
فى جامعة القاهرة. وهل الأجيال التى لم تستكمل تعليمها فى الخارج من
الأطباء أو غيرهم من العلماء أو من الذين يواصلون متابعة كل جديد قادرة على
صنع نهضة علمية تتغير بها أدوات إنتاج المعرفة وعلاقات توزيعها فى بلدنا.
من المؤكد أننا إذا سألنا أحمد زويل عن ترجمة العلوم لأجاب إجابة مشابهة
لإجابة مجدى يعقوب الذى حذر من ترجمة علوم الطب. وهو الأمر الذى جعل
الدكتور مصطفى السيد يتخوف من مادة تعريب العلوم والمعارف فى الدستور.
لقد شكا لى أصدقاء من الذين يعملون مترجمين فى منظمات
الأمم المتحدة من تناقص عدد المترجمين المصريين فى هذه المنظمات، وذلك
بسبب تدهور تعليم اللغات الأجنبية فى الجامعات والمعاهد المصرية، ولا أزال
أضيف إلى شكاواهم الشكوى من ضعف تعليم اللغة العربية، لأنى من المؤمنين أن
من لا يعرف كيف يحسن لغته لن يعرف كيف يحسن لغات غيرها. والمثل الذى أضربه
على ذلك ترجمات صديقى محمد عنانى التى تشهد على تمكنه من اللغة الإنجليزية
تمكنه من لغته العربية. وأضيف إلى مثال محمد عنانى أمثلة كبار المترجمين
ومنهم صديقى محمد الخولى الذى أثرى المكتبة العربية بعدد من الكتب المهمة
فى مجال العلوم الإنسانية. ويلزمنى هذا السياق بالترحم على المرحوم أحمد
مستجير الذى لم أر له نظيرا فى ترجمة كتب العلوم، ومنها ما ترجمه عن
«الجينوم». ويبدو أن علينا التمييز بين ما يجب ترجمته من معارف العلوم وكتب
الثقافة العلمية من ناحية، وترجمة كتب العلوم بتقنياتها وتعقيداتها من
ناحية أخرى. الأولى ممكنة، وتمثل ترجمتها مهادا معرفيا قد يؤدى إلى بعض
التقدم المنشود الذى لا يمكن تحققه كاملا إلا عندما تتقدم مصر وتصبح فى
مكانة اليابان والصين أو حتى ماليزيا أو كوريا. وهو حلم بعيد المنال. ولكن
ليس من المستحيل تحقيقه على البلد التى أخرجت محمد غنيم وشريف مختار وأحمد
مستجير ومجدى يعقوب وأحمد زويل ومصطفى السيد وعشرات مثلهم، لا يعرفهم
الإعلام لأنهم يعملون فى صمت، فهؤلاء وتلامذتهم نوارة المستقبل المشرق
القادم، رغم الجهل والتخبط والفتوى بغير علم حتى فى العلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق